خلافـــــة الرئيـــس

[\"????? ????. ?????? \"?????? ?????\"? \"????? ] [\"????? ????. ?????? \"?????? ?????\"? \"????? ]

خلافـــــة الرئيـــس

By : Hani Masri هاني المصري

كلمّا تقدّم الزمن تُطرح مسألة خلافة الرئيس محمود عباس بقوة أكبر، لأن الرئيس تجاوز الثمانين من عمره وانتهت الفترة القانونية لولايته منذ حوالي سبع سنوات من دون إجراء الانتخابات التي لا يعرف أحد متى ستعقد وكيف، مع تأكيد الرئيس المستمر بأنه لن يترشح لولاية ثانية، ما يعني أن معركة التنافس على الخلافة قد بدأت – وإن من وراء الكواليس - منذ فترة طويلة، وهي التي يمكن أن تفسر الكثير مما يحدث من قرارات وإقصاءات. كما أنّ الأطراف المقررة (فتح وحماس) ليستا ناضجتين ولا جاهزتين، ولا تريدان إجراء الانتخابات بالرغم من تأكيدهما المستمر على إجرائها.

ما يعطي أهمية استثنائية لمسألة خلافة الرئيس:

أولًا: استمرار وتفاقم الانقسام الفلسطيني وما أدى إليه من تعطيل المجلس التشريعي وعدم الاتفاق على وجود أو عدم وجود رئيس له، فـ"حماس" تصرّ على أن الدكتور عزيز دويك هو الرئيس الشرعي للمجلس التشريعي، وبالتالي إذا حصل شغور في منصب رئيس السلطة فسيستلم الدويك منصب الرئيس لمدة 60 يومًا، وبعدها تُجرى انتخابات رئاسية، تمامًا مثلما حصل بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات إذ تولى روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي الرئاسة إلى حين تم انتخاب عباس رئيسًا.

أما "فتح" فتقول إن الدورة البرلمانية انتهت ولم يتم انتخاب هيئة رئاسة جديدة للتشريعي، وبالتالي لا يزال منصب رئيس المجلس التشريعي شاغرًا، ولعل هذا يفسر لماذا لا يريد الرئيس و"فتح" عقد المجلس التشريعي وتفعيله كا جاء في نص "اتفاق القاهرة"  و"إعلان الدوحة" و"بيان الشاطئ"، لأن عقد المجلس الذي تتمتع "حماس" فيه بالأغلبية ولو لجلسة واحدة يعني إمكانية انتخاب هيئة الرئاسة، وبالتالي إذا شغر منصب الرئيس بعد ذلك فسيتولى رئيس المجلس التشريعى الذي اختارته "حماس" الرئاسة لمدة ستين يومًا، ومن المفترض إجراء الانتخابات بعد ذلك، وإذا لم تُجر فسيظل رئيسًا إلى حين إجرائها.

ثانيًا: إن "فتح" والرئيس لم يختاروا نائبًا للرئيس سواء في "فتح" أو السلطة أو المنظمة، وليس معروفًا من هو الرجل الثاني أو الأشخاص الذين يمكن أن يشغلوا مناصب الرئيس بوصفه رئيسًا للسلطة والمنظمة و"فتح". ففي عهد ياسر عرفات كان معروفًا ومحسومًا إلى حد كبير من هو الرجل الثاني عمليًا، فعباس كان أمين سر اللجنة التنفيذية وصانع "اتفاق أوسلو" وأول رئيس لأول حكومة، وكان الرئيس عرفات عندما يغادر أي اجتماع يطلب من عباس رئاسته إلى حين عودته. كما كان هناك توافق عربي وإقليمي ودولي وإسرائيلي على من يخلف عرفات، أما الآن فلا يعرف أحد من سيخلف الرئيس، فهناك تنافس بل صراع محتدم على الخلافة بين عدد كبير من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح وبعض المستقلين، إضافة إلى دخول "حماس" على الخط من خلال إعلانها بأنها ستدرس مسألة المنافسة على الرئاسة من خلال ترشيح أحد قادتها، أو دعم أحد المرشحين المستقلين أو الفتحاويين في حال ترشح أكثر من مرشح عن "فتح".

لقد كتب الحمساوي أحمد يوسف مقالاً قبل سنتين تقريبًا طالب فيه بدعم ترشيح سلام فياض للرئاسة، وسألت عضوًا بارزًا في قيادة "حماس" عن رأيه في هذه الدعوة، فقال إنه شخصيًا يؤيدها ويمكن أن تدعمها "حماس" في ظروف معينة، ولعل هذا يفسر المخاوف المبالغ فيها التي تعكسها بعض القرارات، وهي نابعة من إمكانية تحالف "حماس" مع تيار "فتح" وشخصيات مستقلة سواء أُجريت الانتخابات أو لم تُجر.

حتى الآن، لم يظهر موقف دولي أو عربي أو إقليمي أو إسرائيلي على من يخلف الرئيس، فهناك احتمالات عدة وعدد كبير من الطامحين، وليس واضحًا لمن ستكون الغلبة؛ لذلك تُؤثِر جميع الأطراف الانتظار لمعرفة على من تراهن ومن تدعم ومن له فرصة أكبر بالفوز، ويساهم فى تعقيد هذه المسألة المعقدة أصلًا عدم وجود أفق سياسي، وعدم معرفة إلى أين سيذهب الوضع الفلسطيني: إلى جولة أو جولات من المفاوضات والانتظار المفتوح، أم إلى مواجهة، وما هو حجمها، وهل ستشمل الضفة والقطاع وتصل إلى انتفاضة يمكن أن تمتد إلى أراضي 48، أم ستأخذ شكل الموجات المحسوبة المتنقلة من مكان إلى آخر وتتمحور حول عنوان أو أكثر وليس حول كل شيء؟

هناك من يبالغ كثيرًا في مسألة خلافة الرئيس وأن عدم حسمها قبل رحيل الرئيس أو استقالته أو مرضه، لدرجة توقع انتشار الفوضى والاقتتال الداخلي بين الطامحين للرئاسة كسيناريو وحيد، ويمكن أن يكون السيناريو الأول ولكن ليس الوحيد بالتأكيد، لأنه "عندما تقع الفأس بالرأس" يمكن أن يفرض الواقع الجديد نفسه على الجميع ويدفعهم إلى التوافق قبل "خراب البصرة".

وهناك من يبسّط المسألة تبسيطًا مخلًا، لدرجة القول إن شغور منصب الرئيس يمكن ملؤه ببساطة من خلال اجتماع اللجنة التنفيذية للمنظمة ودعوتها إلى اختيار الخليفة من بين أعضائها، ودعوة اللجنة المركزية لحركة فتح واختيارها رئيسًا جديدًا لها، أو دعوة المجلس المركزي لمنظمة التحرير للانعقاد وانتخاب الرئيس الذي اختارته "فتح" أو اختيار أي شخص آخر لرئاسة السلطة والمنظمة، فالمجلس المركزي وفق أصحاب وجهة النظر هذه هو من أنشأ السلطة ويستطيع اختيار رئيس مؤقت إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية.

ينسى هؤلاء وأولئك أن "فتح" لم تعد منذ زمن هي صاحبة الأغلبية الكبيرة، وبالتالي صاحبة الحق في القيادة الانفرادية للمنظمة والسلطة. كما أن المنظمة لم تعد عمليًا تملك الشرعية الكافية لتقرير من سيكون الرئيس بعد حالة الموت السريري التي دخلتها منذ توقيع "اتفاق أوسلو"، ولا يغيّر كثيرًا من وضعها إبر الإحياء الضعيفة التي أعطيت لها بعد فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية العام 2006.

المنظمة بتشكيلتها الحالية لم تعدّ عمليًا الممثل الشرعي والوحيد لأن مياه كثيرة قد جرت منذ تأسيسها وحتى الآن، وأصبح "التيار الإسلامي" ينافسها بشدة على القيادة والتمثيل، لذلك من دون إجراء الانتخابات أو توافق وطني يتضمن انضمام "حماس" والجهاد الإسلامي إلى المنظمة لا يمكن الحديث عن شرعية أي إجراء، خصوصًا بعد أن حسمت "حماس" مسألة اشتراكها في المنظمة وتخلّت عن مساعيها لإقامة منظمة بديلة أو موازية، وشاركت بالتوصل إلى اتفاقات المصالحة من "إعلان القاهرة" 2005 إلى "وثيقة الأسرى" ووثيقة الوفاق الوطني إلى "اتفاق القاهرة" وملحقاته، وبعد أن سيطرت بعد الانقلاب/الحسم على قطاع غزة، وبعد أن فرضت وعمّقت هذه السيطرة، لدرجة أن العديد من الأطراف الدولية والعربية تتعامل معها، لا سيما بعد أن تفاوضت إسرائيل معها بشكل غير مباشر لعقد اتفاقات الهدنة وتبادل الأسرى وتتفاوض معها الآن للاتفاق على هدنة طويلة الأمد مقابل رفع الحصار.

ما يعطي لمسألة الخلافة أهمية إضافية على ما سبق  أن الرئيس المنتهية ولايته الذي لم يدع إلى عقد المجلس الوطني للتجديد له أو للشروع في تشكيل مجلس وطني جديد بالانتخاب حيثما أمكن، وبالتوافق حين يتعذر الانتخاب؛ أصبح يتمتع بسلطات وصلاحيات استثنائية من دون مشاركة للمؤسسات في السلطة والمنظمة وحركة فتح ومن دون مراقبة ولا مساءلة ولا محاسبة، إذ أصبحنا أمام نظام فردي بكل معنى الكلمة.

إن عدم حسم مسألة الخلافة وعدم إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في مواعيدها، أو التوصل إلى توافق وطني لتجديد المؤسسات في السلطة والمنظمة، والحالة المزرية التي تمر بها المنظمة يوحي بأن الإبقاء عليها شكلًا إنما يستهدف قيامها بدور أخير، وهو التوقيع على الاتفاق النهائي باسم الشعب الفلسطيني، لأن إسرائيل تصرّ على أن يكون مثل هذا الاتفاق يشمل إنهاء للصراع بكل جوانبه ووقفًا لكل المطالَب الفلسطينية.

كتبت هذا المقال في محاولة لتفسير ما يجري، بدءًا من سقوط أحمد قريع في مؤتمر "فتح" ونجاحه كمستقل في الانتخابات الاستكمالية لأعضاء اللجنة التنفيذية، وما حصل بعد ذلك مع محمد دحلان ونبيل عمرو وناصر القدوة ومروان البرغوثي، وكيفية التعامل القيادي مع جبريل الرجوب بما يتعلق بمسألة "الفيفا" وعضوية إسرائيل فيها، وغيرهم من داخل "فتح"، وسلام فياض، وأخيرًا ياسر عبد ربه وتعيين صائب عريقات من دون الرجوع إلى اللجنة التنفيذية ولا حتى اللجنة المركزية لحركة فتح قائمًا بأعمال أمين سر المنظمة باعتباره يتعلق بالتنافس والصراع على الخلافة. فالرئيس لا يعرف ماذا يمكن أن يعمل إزاء المخاطر والتعقيدات التي تواجه القضية الفلسطينية بعد أن وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود من دون شق طريق جديد مختلف كليًا، فآثر إبقاء الأمر على حاله إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

كما أنه يخشى في ظل الضيق الأميركي والإسرائيلي من بعض سياساته أن يحصل معه ما حصل مع سلفه، إذ تعرض لإقصاء بمشاركة زملاء وأخوة له تنفيذًا لدعوة جورج بوش الابن لتغيير قيادة عرفات (ولعل هذا يفسر الحديث المتكرر عن اكتشاف مخططات انقلابية بين فينة وأخرى في الضفة الغربية)، ويخشى عباس أيضًا من أن الذي سيخلفه يمكن أن ينتقم منه من خلال ملاحقة أولاده.

إن شغور منصب الرئيس في ظل عدم التوافق الوطني على إدارة المرحلة الانتقالية وعدم شرعية المؤسسات القائمة قد يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة أحلاها مرّ "فاتقوا الله" قبل فوات الأوان. فالمطلوب حوار من أجل عقد اجتماعي جديد ضمن رؤية شاملة وخارطة طريق كاملة. [يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكاة وتعاون بين جريدة "السفير" و"جدلية"]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • فتح إلى أين... حركة تحرر أم حزب السلطة؟

      فتح إلى أين... حركة تحرر أم حزب السلطة؟
      سيُعقد يوم غد، في التاسع والعشرين من هذا الشهر، مؤتمر حركة فتح السابع، ومع ذلك، حتى قبل أسبوع من عقده، كان لا يزال الحوار جاريًا حول عقده أو تأجيله. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحول دون عقد المؤتمر في
    • لكي تنتصر الانتفاضة

      لكي تنتصر الانتفاضة
      ليس المطلوب المبالغة في الجدال حول تسمية ما يجري، "هبة" "موجة" "انتفاضة" "ردة فعل دفاعية"، فما يجري، بغض النظر عن التسمية، دليل حيّ جديد على قيامة المارد الفلس
    • نقطة تحول

      نقطة تحول
      يدلّ خطاب الرئيس على أن لحظة الحقيقة، لحظة اتخاذ القرار الذي طال انتظاره، تقترب، وإذا لم يتم التقاطها بسرعة ستطارد لعنة التاريخ القيادة الفلسطينية إلى الأبد. لقد رفض الرئيس في خطابه العودة إلى المفاو

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]